وأفوض أمري إلى الله أي عبارة عبقرية هذه! أي روح وراحة وطمأنينة توحدها في نفوس المتعبين! حين ينخلع المرء من حوله وطوله! حين يخرج من حدود ذاته الواهنة! حين يقول بصدق وإخلاص يا رب أنا منك وبك وإليك! حين يأوي إلى الركن الشديد! حين يشعر أنه هباءة في كون الله الفسيح! حين يعلم أن مفاتيح كل شيء وخزائن كل شىء ومقادير كل شيء بيد الله وحده! حين يلقي نفسه على بابه ويقول: لا وعزتك لا أبرح! حين يكون بين يدي ربه كالطفل الصغير بين يدي أمه لا يكف حتى يُعطى! حين لا يبقى في النفس منزع للانشغال بالخلق عن الخالق، ولا بالنعمة عن المنعم! حين تهتف كل ذرة في كيان العبد وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ... حينها تُفتح المغاليق وتدور المياسير ، وتُطوى المعاسير ... ويُذيق الله العباد بعض رحمته.. أهل بيت مساكين، لم يكن في بيتهم طعام، وعضهم الجوع بنابه الزرقاء... خرج الزوج إلى فضاء الأرض يبحث عن أثارة من رزق... وقامت الزوجة بالتوكل، وعزمت عزمة اليقين، وفوضت الأمر للكبير المتعالي ... وحركت الطاحون وما فيها حب! وأشعلت النار وما عليها طعام! لعلها قالت: وعزتك وجلالك لتملأن طاحوني الخالية حبا، ولتملأن جفتني الفارغة لحما! ولترزقن أطفالي الجائعين من حيث رزقت مريم في المحراب! ولعل زوجها قلب وجهه في السماء، وهتف قلبه: رحماك يا رب يا كريم العطاء! فملأ الله يديه خيرا ولم يرد يديها صفرا فدارت الرحى على طحين! وامتلأت الجفنة بأطيب الطعوم! وقامت إلى طاحونتها وقد فاضت بما فيها فأوقفتها ... ولو لم تفعل لظلت تطحن للناس إلى يوم القيامة، قاله الصادق المصدق صلى الله عليه وسلم! فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخل رجل على أهله فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية، فلما رأت امرأته ما لقي قامت إلى الرحى فوضعتها، وإلى التنور فسجرته، ثم قالت : اللهم ارزقنا، فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت، قال : وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئًا، قال : فرجع الزَّوجُ، قال : أصبتم بعدي شيئًا ؟ قالت امرأته : نعم؛ من ربِّنا فرفعتها إلى الرحى ثم قامت، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال : «أما إنَّه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة»(رواه أحمد بإسناد صحيح) . لا تخطُوَنَّ في هذه الدنيا خطوة إلا وقد فوضت أمرك كله لله، ولا تنامن بعدها إلا قرير العين!